لكل منا رصيد مهاري للقيام بأكثر من مهمة، وكما تقول قاعدة من قواعد التسيير والإدارة فإنه على كل فرد من فريق العمل أن يلمّ بالحد الأدنى لكل تخصص من تخصصات فريقه ومؤسسته، لكن مع هذا فالتفرّغ مطلوب وضروري، والفرق بين المتخصص وغيره وجود ما يمكن أن نطلق عليه ” النفَس الطويل”.

ولتوضيح الأمر أكثر نسقطه على مجالات أخرى من حياتنا، ولعل المثال الأقرب إلى ذهني حاليا سياقة السيارة، فأغلبنا له رخصة القيادة لسيارته حيث نعتبرها متعة، كما أن هناك من مهنته اليومية دائما أمام المقود، فلا يقتصر استعماله على تنقله من مكان إقامته مثلا إلى أماكن عمله ومصالحه فقط، ولكن يتعدى ذلك كون عمله بحد ذاته كسائق طاكسي أو موظف في شركة نقل مثلا، فأي منا له الصبر على تحمل أعباء الطريق؟ أو السياقة لوقت طويل ومستمر؟ وأينا أكثر تحكّما وتركيزا؟ الأكيد أن أي شخص سيقول هو الأخير الذي تخصّصه ومهنته قيادة السيارة، فهو الأكثر خبرة وتجربة، حيث يرى غيره الجوانب الجميلة من المهنة فقط كالأسفار والتنقلات واكتشاف الجديد دائما، فيما يغفل صعوبات الطريق وعناء الأسفار والأعطاب الميكانيكية ومخاطر الحوادث و… إلخ.

نفس الأمر ينطبق على المصمم الفني المتخصص، حيث كثر استعمال عبارة كون التصميم مهنة من لا مهنة له، وأن كل من وجد في يده بعض المهارة افتتح لنفسه مكتبا وبدأ في استقبال الزبائن والطلبات، مما يزعج البعض ربّما، نظرا لقلة الجودة في تلك الأعمال عادة والأهم من ذلك الأسعار القريبة من الصفر!

لكن سرعان ما تسمع بذلك الجديد قد غيّر المهنة أصلا، وأعرض عن فكرة كونه مصمّما! فمالدافع لذلك ياترى؟ أكيد هذا الشخص لم يكن لديه طول النّفس وكان يرى من المجال ظاهره فقط بتحريك الفأرة وبعض النقر في لوحة المفاتيح لإخراج لوحة ذات ألوان، ثم بابتسامة بريئة يجد يد الزبون مبسوطة له لتقدم له مبلغا من المال، هذا ما يتخيله أو يتهيّأ له أول وهلة، لذلك في الأول نجد المئات منهم ثم لا يواصل إلا العشرات، فالزمن عامل مهم لترشيح وتصفية من دخل المجال بغير حب وقناعة واهتمام بعمله وتفان في تأدية مهامه.

تعترض المصمم مصاعب كثيرة تجعل منه أكثر تمرّسا وخبرة في التعامل إن صبر عليها، ولبلوغ تلك المرتبة عليه أن يكون ذا نفَس طويل، ومن تلك الصعوبات والعراقيل مثلا:

  • تهاطل عدة أعمال ثقيلة ومشاريع دسمة في آن واحد، وخلال فترة وجيزة تتطلب منه الصبر معها والقيام بها كلها، وبنفس المستوى من الأداء، إرضاء لأصحابها، وربما طلبا من مديره، فإن اجتاز هذا الاختبار كل مرة بنجاح علا شأنه وقويت شوكته كفنّان ومبدع.
  • رفض الزبون للعمل المقدم لأكثر من مرة، فالمصمم يسهر الليل ويقدّم عصارة جهده ليعرض محاولته ثم يأتي الزبون ليقابل ذلك الجهد بالاعتراض على بعض التفاصيل وتقديم طلباته الخاصة -التي هي من حقه- فعلى المصمّم إن أراد نجاحا أن يتجلّد هنا ويعتقد أن كل هذه العراقيل ماهي إلا رصيد يدّخره لوقت الحاجة، وخبرة تزيد فيه هو.
  • عدم توافق الوسائل مع الجهد المبذول والنتيجة المطلوبة، كأن يكون الجهاز ثقيلا نوعا ما، أو ينطفئ فجأة مع آخر اللمسات، فالمصمّم العجول هنا لا يصبر كثيرا، وتؤثر فيه تلك العوامل على محاولة طيّ العمل بأسرع ما يمكن والتخلص منه، بينما إذا قويت عزيمته فلا تهمه الأجهزة، ولكن الأصل هو إنجاز عمل مقبول ذو مستوى رفيع.
  • الاطلاع على جديد المجال وحديثه، وذلك بمطالعة المجلات ومراسلة الفنّانين الكبار، والصبر معهم حين استفسارهم والإلحاح أيضا، فلولا النفس الطويل هنا نجد المصمم ينزعج أحيانا من عدم الرد على مراسلة له، أو يعزّ عليه مطالعة مجلة ومتابعتها، والخاسر الأكبر لا محالة هو فقط، أعلم أن المهمة صعبة لكنها في حدود الإمكان.

أنصح كل مصمّم مبدع أن يضع نصب عينيه الهدف الذي يريد الوصول إليه، وعليه أيضا تذليل العقبات التي تواجهه من حين لآخر، فليس طريق النجاح مفروشا بالورود والزهور كما يتصوره الناس، ولكنه مليء بالشوك والمطبّات، وماهي إلا اختبارات تزيد في رصيد التجربة، فأطل نفَسك واصبر مع عملك وستصل بإذن الله لما كنت ترجو وأكثر، كما عليك ألا تهتم بدخول غيرك ممن هبّ ودب في المجال الفني، لأن الوقت وحده كفيل ببقاء الأصلح والأقوى والأنسب منهم والأهم من ذلك كله الأطول نفَسا.

الموضوع منشور أيضا في نقطة بداية