منذ أيام مضت كان هناك تصريح لأحد رجال الدولة في الجزائر حول تصنيف العلوم وترتيبها وفق الأولويات، وكان هذا حينما أشرف على افتتاح الموسم الجامعي كما هو معتاد، لحد الآن كل الأمور عادية ولا تستدعي الاهتمام، فالموضوع جاء في وقته تماما وعلى قدر المقام والمناسبة.

إلا أن الغريب فيما حصل هي تلك الزلة التي تضاف لمجموع زلاته هو شخصيا ولغيره ممن في منزلته أو فوقهم أو تحتهم، زلة كبيرة اهتمّت بها وسائل الإعلام كثيرا لا مجال لتكرارها هنا، ومع أنها اهتمت بها كأنها الهفوة الوحيدة إلا أن هناك أمرا خطيرا جدا يتعلق بجذور الفكر وأسسه، ويمسّ أصول القضية فضلا عن فروعها لم أجد من ألقى له بالا، لهذا أسفت كثيرا لحال هذا الرجل، وأسفي أكبر إن كان غيره ممن بيدهم القرار لهم نفس القناعة أيضا!

تحدث صاحبنا عن العلوم الإنسانية والتقنية، وأرسل رسائل مشفرة مطعّمة بالهزل -كعادته- توضّح المسألة، وإن هو لم يفضّل أحدهما على الآخر كما جرى التقليد بين ألسنة الأساتذة والطلبة في المدارس منذ أولى المراحل إلى آخرها، إنما ألغى ركيزة بأكملها وأكّد أن العلوم تبنى بواحدة دون الأخرى، ومتى رأيت طيرا يطير بجناح دون آخر؟

الصراع التقليدي الأزلي المفتعل بين دعاة العلوم التقنية وأنصار العلوم الإنسانية مرض متجذر مزمن، يمس التصورات أساسا ولا يمكن علاجه بسهولة، بينما بالإمكان استدراك الحالة المتفشية بتعديل بعض القناعات من أسسها، وغرس بعض المفاهيم في أولى مراحل التعليم، ليس في أذهان الطلبة فحسب، بل قبل ذلك في الأساتذة، وفي أذهان صناع القرار ومن بيدهم رسالة التربية والتعليم.

والآن، بماذا تبنى الأمم؟ بالعلوم التقنية؟ أم بالإنسانية؟ أم بكليهما؟ كيف ذلك؟

عكف الكثير من العلماء قديما يبحثون عن إجابة لهذا السؤال، وفي الحقيقة قد وجدوا ضالتهم فيه، وأخذت الأمم الفطنة ما وجدوا وانطلقت به، فسادت ولا زالت، وأمتنا كانت قد أدركت جيدا الجواب هي أيضا في أبهى عصورها، وحينما تخلى أصحاب الأمانة عن أمانتهم سعيا وراء السراب والشراب سقطوا من الريادة وسقط المعنى كذلك منهم أو سقطوا منه، فوصل الحال بقادتها ألا يدركوا الإجابة حاليا.

العلوم الإنسانية تعتبر بمنزلة المقدمات والكواليس التي تتقدم بها الأمم، في حين تأتي العلوم التقنية بأهميتها في الواجهة تترجم مدى تأثير وقوة تلك الأمم، وفي هذه النقطة تحديدا سأشرح بتفصيل أكبر، فلنتخيل أمة من الأمم، أو دولة وكأنها جهاز آلي، فما نراه نحن في شكله الجميل وقدرته على أداء مهامه وتقديم خدماته وإلهامه حتى لمن يراه أو يستخدمه، فكل ذلك مردّه إلى ما بداخله من مجموعة أسلاك وأجهزة معقدة هي تحت الغطاء، فالمستخدم لا يراها ولكن يرى أداءها من خلال ما يظهر في الواجهة.

تماما هكذا الحال بالنسبة للأمم السائدة، فبكليهما تنهض مع أفضلية وأولوية للعلوم الإنسانية كمرحلة، ولنا في العالم أمثلة ماثلة، إذ بماذا نفسّر انبهار الناس بحضارة الغرب؟ ألكونهم قد اخترعوا آلات وأجهزة فحسب؟ لا أبدا، إنما بقوة مناهجهم التربوية ونجاعة منظومة مجموعة من القيم لديهم، وسعة تأثير الإعلام هناك، وقدرتهم على جذب رأس المال المعرفي والمادة الرمادية المنتجة، وكذا تفوقهم في مجال إدارة الأعمال وتسيير المنظمات والمجتمعات والشركات… وكل هذا نتاج تطور وتقدم في العلوم الإنسانية بدءا بالفكر والقانون وعلم الاجتماع… إلخ

أما ما نراه في مظهر حضارتهم من تطور وانتشار تأثير تقني معرفي إنساني فهذا لوجود تربة خصبة -لم تكن موجودة من قبل- وفّرتها أبحاث إنسانية وجسدتها إرادة سياسية تقنية علمية إعلامية، وقد اخترت مثال الغرب لأن دعاة الاهتمام المطلق -كأولوية- بالعلوم التقنية استدلوا بالغرب كذلك مغفلين مصادرهم الأصيلة الثقيلة علما ومنهجا.

إذن ما الذي يحصل لو صببنا اهتمامنا فقط على العلوم التقنية دون العلوم الإنسانية أو أولينا لها مكانة قصوى دون الأخرى؟ هنا ستبقى التبعية للغير دائما، وسيتلقى الطلبة تاريخ العلوم -كما ألفوا- لا العلوم نفسها، وسننتظر الفرج والمدد دائما من هناك لأننا لم نصنع ولم ندرب ولم نكوّن الإنسان، بل وجهّنا كل طاقاتنا وأموالنا للأجهزة والمادة، فلا نحن صرنا نحن، ولا ارتقينا لمراتبهم العلمية الحضارية.

ترى هل سيتوقف الأساتذة في تحبيب العلوم التقنية لطلبتهم والسخرية من العلوم الإنسانية بدافع الرواتب المغرية التي تجعلهم عبيدا طول حياتهم؟ هي قصة عشتها مع أستاذ حينما كان يلحّ عليّ أن أتفوق في مادته لأجد لي وظيفة في إحدى الشركات البترولية المرموقة -والتي على فكرة قد تطورت بالعلوم الإنسانية-، خائفا على مستقبلي حسب زعمه، وناصحا لي ولكل قسمي أنذاك، ولسان حاله وغيره من الأساتذة يقول: عليك بنفسك ومستقبلك الغامض فقط ودعك من مصلحة وطنك أو أمتك!

أيما أمة تفطّنت لحالها وسعت في علاج ما اعتراها من أمراض مستعصية لم تشخّص حالها جيدا، فإنها ستضلّ بحثا عن مخرج لن تجده، وستقدم خدمات جليلة لخصومها بفضل جهلها وقلة حيلتها وهوانها على الأمم الأخرى، فالإنسان الإنسان إن أردنا تطورا وازدهارا لنا نحن فما بالك إن أردنا أن نكون مثالا جيدا لغيرنا؟!