كلما سمعت خبر وفاة شخص ما سألت نفسي: متى الدور؟ ولكن حينما يكون الشخص قريبا مني أجدني أجيب: هو أقرب مما تتصور… اللهم ألهمنا الرشد، ولا تجعلنا ممن تهزه الصدمة في حينها ثم ينسى!!

السؤال للإنسان أمل، بالبحث فيه يجد لحياته معنى، وبالعثور عن إجابة له يجد الحافز ليعمل ويجد أكثر، كل الأسئلة ما دون الموت بسيطة، وكل سعي في هذه الحياة يهون عند فقدان الأحباب، ونزول صاعقة الفراق، وكيف نصعق بما نعلم مسبقا؟ وكيف نجزع بما لدينا خبره سلفا!

لو تأملنا فلا نجد أن موت الأحباب مرتبط بالحزن دائما إنما يحكي أحيانا ارتباطه بالسرور إن هم قدموا ما يذهبون به مطمئنين، حينها يكون الحزن عليهم ظرفيا والسعادة بهم أبدية، والأهم في موت عزيز لدينا حين نصاب بموجة من الأسى تعصرنا، وبجرعة من الحزن تتملكنا وتثقل كاهلنا، تصير الحياة من حولنا مريرة، وتغدو الظروف المحيطة بنا كسجن مظلم ينبعث منه صوت داخلي مزلزل يقول: ها قد رحل فلان، وستفعل من بعده لا محال فماذا قدمت؟

الحزن ليس بالضرورة لسبب الفراق، فهو شعور زائل ببعض من الوقت فقط، إنما بالنظر لحالنا حين نتيقن أن فرصة فلان قد انقضت وعاد لبارئه بعمله ولا شيء غيره، فإن غشيته رحمة من الله كان من السعداء، وإلا فالأسف مضاعف والمصاب جلل، ولكن ماذا عنا نحن؟ فقد مدت أنفاسنا، ومنحت لنا فرصة لم يُمنحها هو!

هنا مكمن السؤال، وهنا بؤرة التفكير والفعل، فهل بعدها سوف نعود كما نحن؟ وهل من الحكمة أن نواصل في ظغياننا وأنانيتنا، في حبنا للراحة، واختيارنا لغير ذات الشوكة دائما؟ فلا أحد سيدخل القبر معي ومعك، ولا أحد سيتحدث باسمي وباسمك ذلك اليوم العظيم، إنما إن أردت أن أدخل تلك الحفرة سعيدا فعليّ أن أتنازل عن حظوظ نفسي لغيري، وإن أردت الوقوف بثبات ذلك اليوم، فلأجعل لي هدفا ساميا، وغاية نبيلة لا أحيد عنها ما حييت.

الكل يشهد هذا اللغط والاهتمام المبالغ بعيوب الغير لا شؤونهم وما يزيد فيهم، متناسين عيوبنا الطافية للسطح بقوة، تضييع للوقت والجهد والمال تحت مسميات وذرائع ظاهرها الرحمة وباطنها الجفاء، خاصة بما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من فرصة لقول ما نشاء وكتابة ما نريد، لكن بأي أسلوب؟ وتحت أية رسالة وغاية؟ فلا ننس أن هناك اثنان يتابعان ويراقبان كل ما نأتي وما نذر، هما ليسا في قائمة الأصدقاء والمتابعين لو بحثنا، إنما في جانبينا الأيمن والأيسر!

الحياة أقصر من أن نضيعها في وصف فلان أو فلان، وتقديم الوصفات لمن ننعتهم بالمرضى وحالتنا أشد حرجا منهم، فلنعمل في إطار منظم، ولنجتهد في سياق واضح ممنهج، ومن رأى من أوقاته فائضا لا يعلم أين يصرفه فليهتم فيه بعيوبه يصلحها، وليلتفت لخط زمنه ينقيه ويراجعه.

يعزّ علي ما أرى من حين لآخر -وسأكون كذلك-  في حساب الفيسبوك لشخص يصلني خبر وفاته، فأسارع لتصفحه باحثا عن آخر ما كتب أو علق أو شارك، مقلّبا أيضا تلك الصفحة أتأمل مسيرته التي أخذ ثوابها معه إن حازه، أو العكس لا قدر الله، فحقيقة أحس بعظمة الموقف وأتخيل تلك الصفحة وكأنها تبكي صاحبها أو تنعيه مستبشرة ضاحكة.

ماذا لو مت اليوم؟ ما الأثر الذي تركت؟ وما حجم الخير الذي فعلت؟ وكم من إنسان أسعدت؟ وكم من محتاج سعيت في حاجته؟ هل وعيت فعلا رسالتي كخليفة في الأرض؟ كيف مرت حياتي بعيون من حولي؟ هل أرضيت والدي؟ هل كنت خيرا لأهلي؟ هل استسمحت من أذنبت في حقهم؟ هل وهل وهل… وأهم سؤال قبل وبعد ذلك كله هو: هل أرضيت ربي حقا؟؟!

هي مقاربة افتراضية لها جذورها في الواقع، وهي خواطر جالت في ذهني اليوم بعد وفاة أكثر من صديق عزيز عليّ  ممن أتواصل معهم حقيقة وافتراضيا، فالآن هم وغدا أنا وأنت، يقول المولى عز وجل: “وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (لقمان، 34).

كرر هذا السؤال “متى دوري؟” واعمل بمبدأ المودّع، متفائلا لا منكسرا، مقبلا لا مدبرا، سواء كنت مستيقظا، أو نائما، متحدثا أو صامتا، كاتبا أو قارئا، فرحا أو غاضبا، في البيت وفي العمل، في الحل وفي الترحال… وطوبى لمن ملك قلبه وعقله ودنياه وآخرته بيده، وذلك هو المنال الصعب!